Space Management إدارة المكان

بين مخططات اقتصادية وعمرانية متطورة ونمو اجتماعي عشوائي- عن جريدة الحياة

Posted in دراسات by د. أحمد وجيه عبداللطيف on سبتمبر 2, 2008

إبراهيم غرايبة الحياة – 02/09/08//

قد تبدو أبعاد الخصخصة وتأثيرها في تخطيط عمان بوضوح في المخطط الشمولي الذي علنت عنه أمانة عمان الكبرى، فيبدو بوضوح أن تخطيط المدينة يكاد يستحوذ عليه الاستجابة للحالة الاقتصادية الناشئة عن عمليات التوسع في الاستثمار والعقارات وهيمنة القطاع الخاص، ويكاد يكون مقتصرا على استعمالات الأراضي والأبراج والجسور والطرق والمرافق والمرور والبنى التحتية، وعلى أهمية هذه الجوانب في التخطيط فإنها بدون اعتبار العلاقة الاجتماعية والثقافية بينها وبين المواطنين ودون ملاحظة التداعيات الاجتماعية والثقافية لها على الناس، وبدون التفكير في الحياة الاجتماعية والمجتمعات الناشئة عن هذه المصالح ستتحول أيضا إلى نمو عشوائي يذهب بكثير من أهدافها وغاياتها، وما يحدث في عمان لاحظته بوضوح أكبر وأعمق في مدن أخرى كثيرة مثل الدوحة ودبي، وربما تكون معظم المدن العربية اليوم تواجه الظاهرة نفسها.

تحتاج إدارات تخطيط المدن أن تضع باعتبارها في التخطيط والتنفيذ للمباني والأسواق حياة الناس اليومية والاجتماعية وعلاقاتهم وتفاعلهم بالمكان، والتفاصيل الكثيرة التي بدون أخذها بالاعتبار تتحول حياة أهل المدن إلى أزمات خطيرة.

فمن بداهة التفكير ومنطقية الحياة في المدن أن يكون لكل حي أو تجمع سكني هويته وعلاقته الخاصة بالمكان وبالناس، كأن تصمم الأحياء السكنية لتكون معظم شوارعها غير نافذة وتتيح للأطفال والمشاة القدرة على التحرك والتجمع واللعب بسهولة وأمان، وأن يكون لكل حي مدرسة أساسية قريبة يستطيع الأطفال الوصول إليها من تلقاء أنفسهم، ويجب أيضا أن تكون الدائرة الانتخابية للمواطنين هي مكان إقامتهم وسكنهم الفعلي، وقد تبدو هذه العبارة الأخيرة مستهجنة لكثير من القراء غير الأردنيين، ولكن إذا علمنا أن معظم سكان عمان يشاركون في الانتخابات النيابية وحتى البلدية في مدن وبلدات خارج عمان، وأن كثيرا من الناخبين في عمان يقيمون خارجها تتحول الدهشة إلى الصدمة من حال هذه المدينة (عمان) المنكوبة بأسلوب سكانها في الحياة وفي الانتخابات أيضا.

ويفترض كما في التاريخ والجغرافيا أن تنشأ حول المصالح والمشروعات الاقتصادية مجتمعات قائمة عليها، بحيث تكون مساكن العاملين في هذه المصالح والمشروعات قريبة منها أو في منطقتها أو تكون المساكن جزءا من المشروع التجاري والاستثماري نفسه وبخاصة في المناطق الصناعية والتجارية في أطراف المدينة، وهذه تنشئ منظومة من العلاقات المهنية والتجارية والاجتماعية، وشبكة من المصالح والبرامج المصاحبة للنشاط الاقتصادي نفسه، من المدارس والأسواق والأندية والخدمات والجمعيات المهنية والاجتماعية والتعاونية، وتكون القيمة الاقتصادية والاجتماعية في غالب الأحيان لهذه الشبكة المحيطة والمصاحبة للمشروعات أكبر بكثير من المشروعات بحد ذاتها، فالمجتمعات والثقافات وأنماط الحياة والسلوك الاجتماعي تنشأ حول المشروعات والأنظمة الاقتصادية، وهذا هو ما ينشئ التقدم الاقتصادي والاجتماعي، ويراكم الإنجازات والتجارب ويطور المشروعات والمصالح.

هذا الانفصال بين المشروعات والمخططات الاقتصادية والتقنية والفنية وبين حياة الناس اليومية ومنظومتهم الاجتماعية والثقافية يضر بالمخططات الاقتصادية والتنموية نفسها وقد يودي بها، ولكن التفكير الشامل بها ليمتد إلى الجوانب الاجتماعية والثقافية والحياتية والجمالية يضاعف نتائجها الاقتصادية والمعيشية.

ويتداعى سؤال بديهي مع التحولات الاقتصادية الجارية عن مصير القيادات المحلية التي عرفها المجتمع في المدن والبلدات وفي السياسة أيضا وعن القيادات الجديدة للمجتمع والدولة، هل اختفت ظاهرة القادة المحليين في المدن والبلدات والأحياء والذين كانوا أساس التنافس على الانتخابات البلدية وكانوا يشكلون أيضا قاعدة للنواب والقيادات السياسية؟ كيف ستكون العملية الاجتماعية المنظمة للتنافس الانتخاب ؟ ومن هم المتنافسون على الانتخابات وإلى أي فئات اجتماعية ومهنية ينتمون؟ وكيف سيصنفون؟

الواقع أن هذا السؤال هو المدخل المناسب (ربما) للنظر في التحولات الجوهرية التي جرت على البلديات، فربما تكون قد تحولت إلى دائرة حكومية وليست مؤسسة للحكم المحلي والإدارة المجتمعية كما كانت على مدى القرون الماضية بشكل عفوي تلقائي، ثم مؤسسي بدءا بنهاية القرن التاسع عشر عندما بدأت الانتخابات البلدية تجري في المدن والبلدات وفق البرنامج الإصلاحي الذي بدأته الدولة العثمانية.

كان هذا التحول في بدايته مغريا بسبب موجة دولة الرفاه والرعاية والإمكانيات المادية والفنية الأفضل للمراكز الحكومية، وضعف البلديات والمجتمعات المحلية، ولكن هذه الموجة لم تأخذ بحسبانها تطوير ومشاركة المجتمعات والقيادات المحلية، بل واتجهت إلى تهميشها وإلغائها، ربما لأنه لم يكن في الحسبان إقامة نظام ديمقراطي، ولكن عندما انحسرت هذه الموجة لصالح الديمقراطية والخصخصة فإن الموجة الثانية (الخصخصة بشكل رئيسي والمشاركة الديمقراطية على هامشها) جاءت خالية من الشروط الموضوعية لتطبيقها بنجاج، فهي سياسات وأنظمة اجتماعية تنجح في مجتمعات قوية وتملك موارد واسعة أو كافية تؤهلها للاكتفاء والاستغناء عن الخدمات والإدارة الحكومية، وجاءت أيضا -وهذه خسارة ربما لم يفطن إليها بعد- عندما خسرت المجتمعات خبراتها وتجاربها السابقة في تنظيم شؤونها وإدارة احتياجاتها بموارد وتنظيمات غير مكلفة وضمن الموارد والفرص المتاحة والممكنة.

وامتدت متوالية الخسائر إلى العمل السياسي أيضا، فمن المفترض أن تكون البلديات قاعدة أساسية لانتخاب النواب لأن القادة المحليين الذين ينجحون في خدمة دوائرهم الانتخابية ويعرفهم الناس جيدا بالتجربة والمعايشة، ويتلقون تدريبا وخبرات واسعة في العمل والاتصالات في أثناء عملهم يملكون فرصة النجاح في العمل النيابي، ويفترض أيضا أن يشكل مجلس النواب قاعدة الحكومة والوزراء فيقدم إلى الحكم وزراء امتلكوا خبرات اجتماعية وتشريعية وقدرة على التواصل مع الناس وإضفاء شرعية اجتماعية وسياسية على السلطة التنفيذية تجعلها أقرب إلى الناس، وليست مستندة فقط إلى نخبة أنيقة ومعزولة من رجال الأعمال والتكنوقراط والأكاديميين وكبار الموظفين حتى لو كانوا ناجحين في أعمالهم، فالسياسة والحكم لا يقومان فقط على النجاح الشخصي في الإدارة والأعمال.

فمن يقود اليوم المجتمع والدولة؟

يمكن أن تساعدنا الانتخابات النيابية والبلدية والنقابية بعامة على ملاحظة حراك وتحولات تركيبة وطبيعة النخب والقيادات السياسية والاجتماعية، صحيح أن الانتخابات لدينا لا تمثل بأمانة وواقعية تحولات المجتمعات وتطلعاتها، ولكنها تساعد في الفهم والسؤال، وتعكس إن أمكننا قراءتها بمنهجية وأدوات صحيحة ومناسبة على نحو قريب من الصدق وعلى قدر كبير من الأهمية هذه التحولات والتطلعات، ونحتاج أن نواصل السؤال ومحاولة الفهم للخريطة الاجتماعية المتشكلة، لأننا بغير ذلك سنمضي إلى انفصال كارثي بين الواقع وبين التعامل معه.

كان ملاكو الأراضي وقادة القبائل والعشائر يشكلون مكونا أساسيا في المجالس النيابية والبلدية، ولكنهم اختفوا لصالح طبقة جديدة من المهنيين والجامعيين، حتى دوائر البدو لم تعد مختلفة عن الدوائر الجغرافية الأخرى، فيجري فيها تنافس حقيقي بين الأجيال والقوى الاجتماعية المختلفة، وتوصل إلى مجلس النواب أساتذة جامعيين وأطباء ومهندسين.

وفي الأردن بخاصة، وربما على خلاف ما يجري في مجتمعات ودول أخرى، فإن المحافظات كما يبدو في الانتخابات أكثر ثراء سياسيا واجتماعيا وأعقد بكثير من العاصمة، فالمحافظات تقدم إلى المجالس النيابية والبلدية شبابا عصاميين وقادة مؤهلين تأهيلا مهنيا وتعليميا متقدما أكثر من عمان.

ولكن عن أي مجتمع نتحدث اليوم ؟ وهل ستؤثر التحولات الجارية في الاقتصاد والموارد على النخب والقيادات للعواصم وإدارتها وتنظيمها؟ أو ليكن السؤال هل سيكون للطبقات الجديدة التي تشكلت في السنوات الأخيرة والقائمة على الاتصالات والمعلوماتية والإعلام والتعليم والتأمين والبنوك والعقارات والأسهم والبورصة، آثار واضحة على نتائج الانتخابات؟ بمعنى هل سنشهد قيادات سياسية واجتماعية قائمة على الأعمال الجديدة؟ وهذا التوسع في عمل المرأة ودورها في الحياة والمجتمع هل سيؤدي إلى زيادة حصة المرأة بمقدار حصتها في العمل والمجتمع؟ لماذا لم ينعكس التحول في عمل المرأة ودورها على نتائج الانتخابات؟ أعتقد أننا لا نحتاج إلى هذا التفسير الممل عن تهميش المرأة والهيمنة الذكورية والمجتمعات الأبوية، فلا يمكن أن نصدق أن النساء اللواتي يذهبن الى الجامعات بنسب تفوق الرجال، ويشاركن في العمل، ويسافرن، ويتخذن كل قراراتهن وخياراتهم بمفردهن يخضعن عند الانتخابات السرية لقناعات مفروضة عليهن.

ثمة فجوة أو خلل في النظام الاجتماعي والثقافي تحتاج إلى تشخيص، وربما يكون ذلك بالبدء بسؤال تقليدي وبديهي.

ما الثقافة الجديدة المفترض تشكلها واستصحابها للأعمال الجديدة، وهل تتشكل تلقائيا وعلى نحو واحد وفي مسار حتمي محدد؟ وكم تحتاج من الزمن؟ أم أنها تحتاج إلى وعي مسبق وتشكيل اجتماعي وسياسي يدرك هذه التحولات ويستحضرها؟

فعلى سبيل المثال يبلغ حجم الأعمال في الأردن في مجال الحاسوب والبرمجة والمعلوماتية بعامة حوالي ملياري دولار، وهو قطاع حديث لا يتجاوز عمره عقدين من الزمن، ويبلغ حجم الأعمال في مجال الاتصالات حوالي أربعة مليارات، وهو قطاع يعود معظمه إلى السنوات العشر الماضية، والسؤال هو أين موقع هذين القطاعين في التركيبة والحياة السياسية والاجتماعية والثقافية، لماذا لا نلاحظ بوضوح أثرا لهذين القطاعين في النخب والقيادات السياسية والاجتماعية وفي الأنشطة والبرامج الثقافية والاجتماعية والرياضية والعامة؟

وتعمل في الأردن اليوم حوالي ثلاثين جامعة رسمية وأهلية يفترض أنها تشغل عملية اقتصادية بمئات الملايين، وينتظم فيها عشرات الآلاف من الطلبة والأساتذة والعاملين في التعليم، وهي ظاهرة جديدة أيضا؛ فحتى منتصف السبعينيات لم يكن في الأردن سوى جامعة واحدة، ولم تبدأ الجامعات الخاصة عملها إلا في التسعينيات، فما الذي يجب فعله وكم نحتاج من الزمن لنرى لهذا القطاع دورا مناسبا في التنمية والحياة السياسية والاجتماعية؟

وأخيرا، هذه قصة سمعتها من أحد الصحافيين الأصدقاء لعلها تعبر عن التحول في السياسة العامة مع التحولات الاقتصادية الجارية، فقد لاحظ الصديق أن سيارته المتوقفة على يمين الشارع في وسط مدينة عمان قد حظيت وحدها بمخالفة من دون السيارات المتوقفة أمامها وخلفها، وعندما سأل الشرطي عن السبب مشى الشرطي معه وبدأ يشير إلى السيارات الأخرى التي لم تخالف، هذه سيارة خليجية، وهذه سيارة سياحية (ألا تلاحظ؟) وهذه سيارة لضابط في المخابرات.

* كاتب أردني

4 تعليقات

Subscribe to comments with RSS.

  1. heba youssef said, on أكتوبر 20, 2008 at 1:29 م

    اريد التحدث الي د/ أحمد وجيه

    انا مهندسة هبة خريجة كلية التخطيط عام 2005 واعمل الان كمساعد باحث في الكلية
    ولقد شرُفت بتدريس سيادتكم لدفعتي
    والحقيقة سيادتك كنت ولازلت علامة مضيئة في تاريخ الكلية
    اذكر ان انا اول مرة كنت اسمع عن موضوع gis كان من سيادتكم
    ولقد صادفني الحظ واخذت نسخة من cd لبرنامج gis من سيادتكم
    ولكني كنت احب ان اسال سيادتكم لماذا ولم تركتم الكلية؟
    وهل حينما يتوافر لدينا احد اعضاء هيئة التدريس الممتازين يقابلوننا بالسفر الي احد الدول العربية تاركين هذا الصرح العلمي الكبير , اتساءل لماذا ؟
    ارجو من سيادتكم التكرم بالرد علي سؤالي حتي يتضح لنا الرؤية
    وذا انتهز هذه الفرصة لاعبر عن مدي شكري وتقديري وامتناني لسيادتكم , ارجو من الله دوام التوفيق والنجاح
    hopapopus@hotmai.com

    إعجاب

  2. احمد وجيه said, on أكتوبر 21, 2008 at 9:12 ص

    اختي العزيزة هبة، شكراً على التعليق، ارسلت لك الرد على الأيميل بتاعك.

    تحياتي لك
    أحمد

    إعجاب

  3. نبيل طه said, on ماي 12, 2009 at 3:10 م

    السلام عليكم
    ارجو مساعدتي في ارسال بحوث تتعلق بالتوسع العشوائي للمدن
    مع التقدير
    المهندس المعماري نبيل طه

    إعجاب

    • الأخ العزيز نبيل طه،

      برجاء توضيح نوع المساعدة التي تريدها مني، اذا كنت تريد ان تنشر أبحاثك في مدونتي فمرحباً بك

      إعجاب


أضف تعليق